فصل: (فرع: خروج المعتكف من المسجد لأداء الشهادة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: اعتكاف المؤذن]

وإن كان المعتكف مؤذنا، فصعد المنارة للأذان، فإن كانت المنارة في المسجد أو في رحبة المسجد- و(رحبته): ما كان مضافا إليه محجرا عليه - جاز، لأن الرحبة من المسجد، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا اعتكف في رحبة المسجد.. صح اعتكافه).
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا لو لم تكن المنارة في الرحبة، إلا أنها ملصقة بالمسجد، وبابها إلى المسجد.. جاز أن يصعد إليها؛ لأنها من جملة المسجد، وإن كانت المنارة منفصلة عن المسجد ورحبته.. فهل يبطل اعتكافه بالخروج إليها للأذان؟
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يبطل؛ لأنه خروج إلى ما لا حاجة به إليه.
والثاني: لا يبطل، وهو ظاهر النص؛ لأنها بنيت للمسجد وأذانه، فصارت كالملتصقة به.
والثالث - حكاه في "المهذب" عن أبي إسحاق المروزي -: إن كان المؤذن ممن ألف الناس صوته.. لم يبطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، لإعلام الناس بالوقت، وإن لم يألفوا صوته.. بطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.

.[مسألة: صلاة الجنازة للمعتكف]

وإن عرضت صلاة جنازة، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. فالأفضل أن يخرج، ويصلي على الجنازة؛ لأنها من فرائض الكفايات، والاعتكاف تطوع، فكانت أولى، وإن كان اعتكافه منذوراً.. لم يخرج لصلاة الجنازة؛ لأنها إن لم تتعين عليه.. فليست بواجبة عليه، وإن تعينت عليه.. قال ابن الصباغ: فيمكنه أن يصلي عليها في المسجد، ولا حاجة به إلى الخروج، فإن خرج.. بطل اعتكافه.
وأما الخروج لعيادة المريض: فإن كان اعتكافه تطوعاً.. قال ابن الصباغ في "الشامل": فقد قال بعض أصحابنا: هي والاعتكاف سواء، فيفعل أيهما شاء، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" غير هذا.
قال ابن الصباغ: وظاهر السنة بخلاف ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرج على المريض، وإنما يسأل عنه، ولا يقف، وكان اعتكافه تطوعاً.
فإن خرج المعتكف لحاجة الإنسان، فسأل عن المريض في طريقه، ولم يقف.. جاز، ولم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى حاجة الإنسان.. يمر بالمريض، ولا يعرج عليه، بل يسأل عنه، ويمضي»
وروي عن عائشة أيضاً: قالت «من السنة أن لا يعود المعتكف مريضاً، ولا يشيع جنازة، ولا يباشر امرأة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد له منها»
وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن خرج من الاعتكاف لحاجة الإنسان، ثم مر في طريقه بمسجد، واعتكف فيه.. جاز؛ لأن المساجد غير المساجد الثلاثة سواء.

.[مسألة: الخروج للجمعة للمعتكف]

وإن اعتكف في غير الجامع، وحضرت الجمعة.. لزمه الخروج إليها؛ لأنها فرض على الأعيان، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. بطل اعتكافه، وإن كان واجباً، فإن كان غير متتابع.. لم يحتسب له مدة مضيه إلى المسجد، فإذا بلغ المسجد.. بنى على الأول.
وإن كان متتابعاً.. ففيه قولان حكاهما في "المهذب". وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما: وهو المشهور -: أنه يبطل اعتكافه؛ لأنه قد كان يمكنه الاحتراز منه، بأن يعتكف في الجامع.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.

.[فرع: خروج المعتكف من المسجد لأداء الشهادة]

وإن خرج لأداء شهادة عليه، فإن لم يتعين عليه حال التحمل والأداء، أو تعين عليه التحمل، ولم يتعين عليه الأداء.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وإن
تعين عليه التحمل والأداء.. لم يبطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، وإن تعين عليه الأداء، ولم يتعين عليه التحمل.. قال الشافعي (خرج من اعتكافه).
وقال في المرأة (إذا وجبت عليها العدة، فخرجت.. لا ينقطع اعتكافها).
فقال أبو العباس: لا فرق بينهما، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يبطل؛ لأن السبب باختياره.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه.
وحملهما أبو إسحاق على ظاهرهما، وفرق بينهما؛ لأن بالمرأة حاجة إلى النكاح؛ لأنه جهة معاينتها، وليس لهذا المتحمل حاجة إلى التحمل، ولأن التحمل الذي تطوع به، ألجأه إلى الأداء، وأما النكاح: فلم يلجئها إلى الطلاق؛ لأن النكاح لا يقصد به الطلاق، بخلاف التحمل.

.[مسألة: أعذار الخروج للمعتكف]

وإذا مرض المعتكف، فخرج.. نظر فيه:
فإن كان مرضا يسيراً، مثل: الحمى الخفيفة، والصداع اليسير، ووجع الضرس.. لم يجز له الخروج، وإن خرج لذلك.. بطل اعتكافه؛ لأنه يمكنه المقام معه في المسجد من غير مشقة.
وإن كان مرضاً لا يمكن معه المقام في المسجد؛ كانطلاق الجوف الذي يخاف منه تلويث المسجد، وما أشبهه.. جاز له الخروج؛ لأنه موضع عذر، فإذا برئ.. رجع، وبنى على اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وإن كان مرضاً يمكن معه المقام في المسجد، ولكن بمشقة، مثل: أن يحتاج إلى الفراش والطبيب والمداواة.. جاز له الخروج، وهل يبطل التتابع بذلك؟ قال ابن
الصباغ: ظاهر قول الشافعي: (أنه إذا برئ.. بنى). قال: ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمرض في الشهرين المتتابعين، هل يبطل. وفيه قولان، ولم يذكر الشيح أبو إسحاق في "المهذب" غير هذا.
فإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد.. لم يبطل اعتكافه، قولا واحدا؛ لأنه أخرج بغير اختياره.

.[مسألة: السكر والردة تبطل الاعتكاف]

قال الشافعي: (وإذا شرب المعتكف، فسكر.. بطل اعتكافه). وقال: (إذا ارتد المعتكف، ثم أسلم.. بنى على اعتكافه). واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: لا يبطل الاعتكاف فيهما؛ لأنهما لم يخرجا من المسجد، وما قال الشافعي في السكران أراد: إذا سكر، وأخرج من المسجد، أو أخرج ليقام عليه الحد؛ لأن الذي وجد منه تناول المحرم، وذلك لا يبطل الاعتكاف.
ومنهم من قال: يبطل اعتكافه بنفس السكر والردة وإن لم يخرج من المسجد؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات.
وقيل: إن مسألة المرتد قرئت على الربيع، فقال: اضربوا عليها؛ لأن الشافعي قال في السكران: (يبطل اعتكافه). والمرتد أسوأ حالاً منه.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، وهو المذهب، فيبطل الاعتكاف بنفس السكر ولا يبطل بنفس الردة؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد من أهل الإقامة في المسجد؛ لأنه يجوز إقراره فيه، ألا ترى: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل الكفار في المسجد)، و: (ربط ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد)؟

.[مسألة: حيض المعتكفة]

وإذا حاضت المعتكفة.. خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام فيه، فإن كان اعتكافها تطوعا.. بنت عليه إذا طهرت، وهكذا: إذا كان نذرا غير متتابع، وإن كان نذرا متتابعاً.. نظرت في المدة المنذورة:
فإن كان مدة لا يمكنها حفظها من الحيض.. لم يبطل التتابع بذلك، كما لو حاضت في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن كانت مدة يمكنها حفظها من الحيض.. بطل تتابعها، كما لو حاضت في صوم الثلاث المتتابعة. هذا مذهبنا.
وحكي عن أبي قلابة: أنه قال: (إذا حاضت المعتكفة.. لم تخرج إلى منزلها، بل تضرب خباءها على باب المسجد، فإذا طهرت.. رجعت إلى المسجد). وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد لزمها الخروج من المسجد، فلم يؤثر وقوفها على باب المسجد.

.[مسألة: إحرام المعتكف بالحج]

وإن أحرم المعتكف بالحج.. صح إحرامه، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يقعد للاعتكاف، ثم يحج، وإن كان وقت الحج ضيقاً.. لزمه أن يخرج للحج؛ لأن الحج يجب عليه بالشرع، فإذا خرج.. بطل اعتكافه؛ لأن سببه باختياره.

.[مسألة: انهدام المسجد حال الاعتكاف المنذور]

قال في "الأم" [2/90] (وإذا نذر اعتكافاً، ثم دخل مسجداً، فاعتكف فيه، ثم انهدم المسجد: فإن أمكنه أن يقيم فيه.. أقام حتى يتم اعتكافه، وإن لم يمكنه..
خرج، فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم اعتكافه).
وجملة ذلك: أنه إذا بقي موضع يمكنه أن يقيم فيه.. أقام فيه، وإن لم يتبق منه موضع يقيم فيه.. خرج منه، وتمم ما بقي من اعتكافه في غيره من المساجد، ولا يبطل بالخروج؛ لأنه لحاجة.
وأما قول الشافعي: (فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم): فتأوله أصحابنا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد: إذا عين أحد المساجد الثلاثة، وقلنا بتعين مسجد المدينة، والمسجد الأقصى.
والتأويل الثاني: إذا نذر اعتكافا غير متتابع، ولا متعلق بزمان بعينه: فإذا انهدم المسجد.. كان بالخيار: إن شاء.. اعتكف في غيره، وإن شاء.. انتظر عمارة المسجد المنهدم.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل تأويلا ثالثاً: وهو أن يكون في موضع ليس فيه إلا مسجد واحد وانهدم.

.[مسألة: خروج المعتكف ناسيا]

وإن خرج المعتكف من المسجد ناسيا أو مكرها.. لم يبطل اعتكافه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».
وإن أكره حتى خرج بنفسه.. فهل يبطل اعتكافه. فيه قولان، كما لو أكره الصائم حتى أكل بنفسه.
وإن أخرجه السلطان، فإن أخرجه بغير حق، مثل: أن يطالبه بما ليس عليه، أو يطالبه بما عليه إلا أنه مفلس، أو طلبه ليصادره بغير حق، فهرب منه.. لم يبطل اعتكافه، وإذا عاد.. بنى؛ لأنه خروج بغير اختياره، وإن أخرجه بحق، مثل: أن يكون عليه دين وهو قادر على قضائه، فأخرجه السلطان ليقضيه.. بطل اعتكافه؛ لأنه خرج باختياره؛ لأنه كان يمكنه أن يقضيه في المسجد.
وإن أخرجه ليقيم عليه حداً.. فذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والمحاملي في " المجموع "، وابن الصباغ في "الشامل": أنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه مكره على خروجه، أو لأنه مضطر إليه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وذكر في "المهذب": إن ثبت بإقراره.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج باختياره، وإن ثبت بالبينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل؛ لأنه اختار سببه.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه لم يشرب، ولم يزن، ولم يسرق ليخرج، فيقام عليه الحد.

.[مسألة: رجوع المعتكف بعد زوال العذر]

وإن خرج المعتكف من المسجد لعذر، ثم رجع بعد زوال العذر.. جاز.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\168] ولا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأن النية الأولى لم تبطل، وإن أقام بعد زوال العذر.. بطل الاعتكاف؛ لأنه تركه من غير عذر، وإذا رجع.. فعليه تجديد نية أخرى؛ لأن الأولى قد بطلت بالإقامة، فإن كان قد نذر اعتكافا غير متتابع في زمان معين، فدخل فيه بنية الاعتكاف، ثم خرج منه لغير حاجة، أو جامع فيه.. فإنه يبطل اعتكافه بذلك، وإذا رجع.. لم يجب عليه تجديد النية؛ لأن الزمان مستحق للاعتكاف، وقد صح دخوله فيه بالنية الأولى.

.[مسألة: يحرم على المعتكف المباشرة بشهوة]

ويحرم على المعتكف المباشرة بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]
فإن وطئها في الفرج، ذاكراً للاعتكاف، عالما بالتحريم.. فسد اعتكافه؛ لأن كل عبادة حرم فيها الوطء أبطلها، كالصوم والحج، ولا تجب عليه الكفارة.
وقال الحسن، والزهري: تجب عليه الكفارة
دليلنا: أنها عبادة لا ينوب فيها المال، فلم يجب بإفسادها كفارة، كالصلاة. وإن قبلها بشهوة، أو وطئها فيما دون الفرج بشهوة.. حرم عليه ذلك كله؛ للآية، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل؛ للآية، والنهي يقتضي الفساد.
والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأنه عبادة تختص بمكان، فلم تبطل بالمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، كالحج.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إن أنزل.. بطل اعتكافه، وإن لم ينزل.. لم يبطل، كالصوم). وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا، وهذا لا يصح؛ لأنا لو قلنا يبطل بالإنزال مع المباشرة.. لساوينا بينه وبين الوطء في الفرج، وهذا لا يجوز، بخلاف الصوم، فإنهما يستويان في الإبطال، وللوطء في الفرج مزية بإيجاب الكفارة.

.[مسألة: المباشرة بغير شهوة]

فإن باشرها بغير شهوة، مثل: أن يعتمد على يدها، أو يقبلها إكراماً لها، فإنه لا يفسد اعتكافه؛ لحديث عائشة: «أنها كانت ترجل شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف».
وإن جامعها في الفرج ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. فقد قال البغداديون، وبعض الخراسانيين من أصحابنا: لا يبطل اعتكافه، قولا واحداً.
ومن أصحابنا الخرسانيين من قال: في جماع الناسي في الصوم والاعتكاف
قولان، كالحج، والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه». ويخالف الحج، فإن من محظوراته ما سوي فيه بين العمد والخطأ، وهو: قتل الصيد وحلق الشعر، فجعل الوطء من جملتها، بخلاف الصوم والاعتكاف.

.[مسألة: التزين للمعتكف]

ولا يكره للمعتكف لبس الرفيع من الثياب والطيب.
وقال أحمد: (يكره له ذلك).
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف ولم يغير شيئاً من ملابسه)، ولأنها عبادة لا يحرم فيها ترجيل الشعر، فلم يحرم فيها الطيب، كالصوم، وفيه احتراز من الحج.
ويجوز أن يتزوج ويزوج؛ لأنها عبادة لا يحرم فيها الطيب، فلم يحرم فيها النكاح، كالصوم.
ويستحب له دراسة العلم، وتعليمه، وتعليم القرآن. قال أصحابنا: وذلك أفضل من صلاة النافلة.
وقال مالك، وأحمد: (لا يستحب له قراءة القرآن، وتدريس العلم، ودرسه، وإنما يشتغل بذكر الله، والتسبيح، والصلاة).
دليلنا: أن القراءة وتدريس العلم قربة وطاعة، فاستحب للمعتكف، كالصلاة والذكر، ويجوز أن يتحدث بما ليس فيه فحش ومعصية؛ لما روي «عن صفية بنت حيي بن أخطب: أنها قالت: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف في المسجد لأزوره، فقعد معي، وتحدثنا، فلما قمت.. قام معي ليقلبني إلى أهلي، فرآه رجلان من الأنصار،
فأسرعا، فصاح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال "هذه صفية زوجتي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا».
وهل يكره البيع والشراء في المسجد؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يكره، ولم يذكر في "التعليق" غيره؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد»، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال: «أيها الناشد، غيرك الواجد، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة».
والثاني: لا يكره؛ لأنه كلام مباح، فلم يكره، كالحديث، والأول أصح.
قال ابن الصباغ: فإن كان محتاجا إلى شراء قوته، وما لا بد منه.. لم يكره، وإن أكثر من ذلك.. لم يبطل اعتكافه.
وقال في القديم: (إن فعل ذلك، والاعتكاف منذور.. رأيت أن يستقبله).
وهذا قول مرجوع عنه.
وكذلك تكره الخياطة في المسجد، وما أشبهها، إلا أن يخيط ثوبه وما يحتاج إلى لبسه، فلا يكره.
وقال مالك: (إن كانت الخياطة حرفته.. لم يصح اعتكافه؛ لأنه قعد محترفا، لا معتكفا)؟
دليلنا: أن الاعتكاف: هو اللبث في المسجد بنية القربة، وقد وجد ذلك منه، فهو كما لو كان نائما فيه.
ويكره له السباب، والجدال، والخصومة؛ لأن ذلك يكره لغير المعتكف، فالمعتكف أولى، فإن فعل ذلك.. لم يفسد اعتكافه، كما قلنا في الصوم.

.[فرع: الأكل والحجامة للمعتكف]

ويجوز أن يأكل في المسجد، ويضع فيه المائدة؛ لأنها تقي المسجد من أن يتلوث بما يأكله، أو يتناثر فيه شيء من الطعام، فيجتمع عليه الهوام.
ويجوز أن يغسل يديه فيه، فإن غسلها في الطست.. فهو أولى.
قال ابن الصباغ: وأما الحجامة والفصد في المسجد إذا لم يلوث به المسجد.. فيجوز، والأولى: تركه، فإن أراد الخروج لذلك، فإن كانت الحاجة داعية إلى ذلك، بحيث لا يمكن تأخيرها.. جاز الخروج، وإن أمكن تأخيرها.. لم يجز، فيجري مجرى المرض المحتمل وغير المحتمل.
ولا يخرج من المسجد لتجديد الطهارة، وإن توضأ في المسجد.. جاز، وإن توضأ في الطست.. كان أولى.
وأما البول في المسجد في إناء: قال ابن الصباغ: فيحتمل أن يجري مجرى الحجامة والفصد، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن ذلك مما يستحقان به، ويستقبح، فينزه المسجد عنه.

.[مسألة: نذر التبرر للمعتكف]

إذا قال: إذا كلمت فلانا، أو: إن كلمته، فلله علي أن أعتكف شهرا، فإن كان على وجه التبرر والقربة، مثل: أن كان محتاجا إلى كلامه، فقال: إن كلمته-بمعنى: إن رزقني الله كلامه- فلله علي أن أعتكف شهرا.. فإنه إذا رزق كلامه.. لزمه أن يعتكف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله.. فليطعه، ومن نذر أن يعصيه.. فلا يعصه».
وإن أراد منع نفسه من كلامه.. فهو نذر لجاج وغضب، فإذا كلمه... كان بالخيار: بين أن يعتكف شهرا، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين». وهذا معناه.

.[مسألة: نذر التتابع للمعتكف]

إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط إن عرض له عارض، أو بدت له حاجة، كمرض أو غيره، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، خرج منه.. صح نذره، فإذا عرض له ذلك.. جاز له الخروج له، فإذا قضى حاجته.. رجع، وبنى على اعتكافه).
وقال مالك، والأوزاعي: (لا يجوز الشرط في الاعتكاف).
دليلنا: أنه لا يلزمه بأصل الشرع، وإنما لزمه بنذره فجاز له الشرط فيه، كما لو أوجبه على نفسه متفرقا، وأما إذا نذر صوما أو صلاة، وشرط الخروج منه عند العارض.. ففيه وجهان، حكاهما في "الفروع":
أحدهما: ولم يحك في "التعليق" غيره-: أنه يصح كالاعتكاف.
والثاني: لا يصح؛ لأنهما يلزمان في الشرع، بخلاف الاعتكاف.

.[مسألة: مما يبطل به الاعتكاف]

وإذا فعل المعتكف ما يبطله، من الإقامة في البيت بعد قضاء الحاجة، أو الخروج من المسجد لما لا يجوز له الخروج له، فإن كان اعتكافه تطوعا.. لم يبطل ما مضى منه، ولا يلزمه العود إليه؛ لأنه لا يلزمه بالدخول، وإن كان منذورا، فإن لم يشترط التتابع فيه.. لم يبطل ما مضى، فإذا رجع.. بنى على الأول. وإن شرط فيه التتابع.. بطل اعتكافه الأول، وكان عليه الاستئناف.
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يبطل حتى تكون إقامته أكثر من نصف يوم.
دليلنا: أنه خرج من معتكفه بغير حاجة، فبطل، كما لو أقام أكثر من نصف يوم.

.[مسألة: قضاء الاعتكاف عن الميت]

إذا مات وعليه اعتكاف واجب.. لم يعتكف عنه، ولم يطعم عنه.
وقال أبو ثور: (يعتكف عنه). وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس.
وقال أبو حنيفة: (يطعم عنه لكل يوم نصف صاع).
وقد حكي الصيدلاني: أنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. ولم أجده لغيره من أصحابنا.
دليلنا: أنها عبادة لا يدخلها الجبران بالمال في الحياة.. فلم يدخلها بعد الوفاة، فلا تقضى، كالطهارة والصلاة
والله أعلم بالصواب

.[كتاب الحج]

والحج في اللغة: هو القصد إلى الشيء المعظم، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا

أي: يقصدون، و(السب) العمامة، ويقال: الحج، بفتح الحاء وكسرها، ويسمى الحج: نسكا، بإسكان السين، فـ (النسك) - بإسكان السين ـ: اسم لكل عبادة، وبضم السين: الذبح، قال الله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
و(المنسك): موضع الذبح، وقد يكون موضع العبادة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128].
والأصل في وجوب الحج: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وقَوْله تَعَالَى لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27].
وروي: «أن إبراهيم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يا رب، وأين يبلغ ندائي؟ فقال الله: عليك النداء وعلينا البلاغ، فقيل: إن إبراهيم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المقام، وقال: يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، فأجابه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء»
فقيل: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوته، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
ومن أدلة الكتاب أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
قال الشافعي: (قال مجاهد: ومعنى قوله هاهنا {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] يعني: من إذا حج.. لم يره برا، وإن لم يحج.. لم ير تركه مأثما).
وروي عن عكرمة: أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].. قالت اليهود: نحن المسلمون، «فأوحى الله إلى نبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مرهم بالحج، فأمرهم بالحج، فقالوا: لم يكتب علينا [وأبوا أن يحجوا] فنزل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]» [آل عمران: 97].
يعني {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] من أهل الكتاب.. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» فذكر منها الحج، وفيه أخبار كثيرة.
وأجمع المسلمون: على وجوبه.
وقيل: إن أول من حج البيت آدم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما من نبي إلا وحج البيت.
والدليل على فضله: ما روي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة».